أفكار وآراء

كيف يُفسَّر انحطاط الدول وتراجعها؟

25 أبريل 2020
25 أبريل 2020

عبد الله العليان -

يُعد العلامة عبد الرحمن بن محمد بن حسن الحضرمي ـ ابن خلدون ـ من الرواد في علم التاريخ وفلسفته ، إلى جانب علم العمران الذي مسمّاه حديثاً علم الاجتماع البشري، واعتبره بعض الباحثين الغربيين ـ من خلال كتاب المقدمة ـ بأنه المؤسس الحقيقي للمدرسة الوضعية لعلم الاجتماع الحديث ، بما أرساه من أفكار وأطروحات في علم التاريخ ولم يسبقه فيها أحد في المجال العلمي والمنهجي المتفرد بمقاييس ذلك العصر وتحولاته ، وأيضاَ الأسبق لفلسفة التاريخ، وهذه المفكر الفذ، وللأسف، تم تجاهل ما كتبه لعدة قرون كاملة في بلاد العرب والمسلمين، ربما بسبب الانكسارات والتراجعات للحضارة العربية الإسلامية، وأثر ذلك في شتى العلوم الإنسانية، إلى جانب الغزوات التي أسهمت في شلّ عقلية الأمة وفكرها من النهوض والإبداع والابتكار لعدة قرون تالية، وبقيت المقدمة في الإهمال، لأن الاهتمام كان بالتاريخ السردي، وحكايات الغرائب، والسحر، والجن الخ:، حتى بدأ اكتشاف ابن خلدون من قبل الباحثين الغربيين، والمهتمين بالتاريخ والجغرافيا وحياة الشعوب واكتشاف البلدان وتاريخها فوجدوا عالماً متميزاً في علم التاريخ وفلسفته، بطريقة لم تكن معروفة من قبل، وأول الاكتشاف في فكر ابن خلدون، كان عام 1697، من خلال أحد المستشرقين الفرنسيين «دير بلو» وكتب عنه في موسوعته (المكتبة الشرقية )، لكن المعلومات عنه كانت محدودة ومقتضبة، لكن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، صدرت العديد من الرسائل والترجمات الألمانية والفرنسية ، عن العلامة ابن خلدون، وتم إعطاء فكره، الاهتمام والتقدير لما كتبه بالأخص في المقدمة في علم التاريخ وفلسفته وعلم الاجتماع البشري.

بعد ذلك بدأ الاهتمام العربي والإسلامي، بابن خلدون، وبدأت البحوث والمؤلفات، والرسائل الجامعية وما بعدها، تتوالى عن فكر ابن خلدون ورؤيته في علوم الاجتماع وفلسفة التاريخ، وكأن الاهتمام والاعتراف لا يتحقق، إلا إذا أتى من الغربيين وتقديرهم!

وهذه بلا شك هزيمة عقلية وفكرية، تضاف للكثير من التراجعات التي سببت إخفاقات كثيرة في عدم نهوض الأمة وتقدمها وما تزال، وهذا ما عبر عنه العلامة ابن خلدون عنه في بعض فصول المقدمة نفسها، بأن (المغلوب مولع باقتداء الغالب)، وهذا أحد إشكالات الأمة على أصعدة مختلفة، وأهم القضايا التي طرحها ابن خلدون، وهو أيضا السباق في هذا المجال عن ( قيام الدول وانحطاطها)، وشبّه هذا الصعود والسقوط للدول، بمثل الإنسان عندما يخلق، ثم يصعد، ثم ينتهي بالنهاية المعروفة، لكن ابن خلدون، لم يقل ذلك، دون طرح الأسباب الكامنة، في قيام الدول وانحطاطها، أو سقوطها، بل إنه أشار إلى أسباب عديدة، التي تجعل الدول تصعد، ثم تتراجع، أو تتلاشى الخ: من هذه الأسباب التي يراها دافعة للانحطاط والتقهقر والتراجع ، سببا الترف أو الفساد، أو الظلم، أو الرخاوة والنعومة عند تحليل البعض، وفي غياب القوة الداخلية الدافعة في الحفاظ على الدولة ومقوماتها الأساسية من الانهيار، ويسمها قوة العصبية.

كما تسمى في الفكر السياسي عند بعض المفكرين المسلمين القدامى، ومنهم الإمام الغزالي والماوردي بـ (الشوكة)، وتتمثل في رابطة سياسية أو رابطة نسب أو رابطة اجتماعية، أو قوة الالتحام مع الدولة عند الأخطار والتوترات، كمناصرة لحماية الدولة، وعبارة العصبية مدلولاتها كثيرة، لكن بالمفهوم المعاصر قوة لها ثقل سياسي ومجتمعي، وقادرة على احتواء الأزمات والمشكلات عند الأخطار، والعلامة ابن خلدون، لم يكتب المقدمة، بعيداً عن الواقع، أو من خلال القراءة السمعية من التاريخ القديم وشهادات الآخرين، وأعاد ترتيب تلك الرؤى والأفكار وكتبها، بل إنه كتب هذه الأحداث في كتابه الضخم في المقدمة، مستوحاة من معايشته للواقع في ذلك العصر، وجعل من تجربة الدولة العربية، مدار تحليله، وفهم تلك الحياة الاجتماعية، وسيرها السياسي والفكري والاقتصادي، وحدد أسباب ما سيؤول إليه كيان الدولة من تداعيات، لو لم يتم تفادي ما سيقع على كيان هذه الدولة من سنن التطور، وحتمية التاريخ، التي هي من السنن التاريخية في التجربة البشرية، وبعض الباحثين يرون أن ابن خلدون حدد أعمارا للدول، وشبهها بالكائن الحي، الذي يولد، ثم ينمو، ثم يصير شابا، ثم يهرم إلى آخره، لكن هؤلاء يختلفون مع رؤية ابن خلدون في هذا التقييم العمري للدول، وتشبيهها بالكائن الحي، وأن بعض الدول بقيت لقرون عدة، دون أن تصل إلى مرحلة الهرم، والانهيار، لكن هذا الأمر أشار إلى أسبابه العلامة ابن خلدون، فعندما تستطيع السلطة السياسية، أن تجدد نفسها، بإقصاء عوامل الترهل والفساد، والتمتع بالقوة والمناصرة، والالتحام الشعبي، وغياب ما يسهم في ضعف الدولة وانهيارها، ستعود من فترة الضعف إلى مرحلة القوة والصلابة، وهذا منوط بالعقلية الواسعة والرؤية الحصيفة لما يدور ويجري من تغيرات، ودراسة الواقع والوعي بالتاريخ، ومنها يمكن تدارك مسببات الإخفاقات.

فالكاتب الصحفي/‏ محمد حسنين هيكل في كتابه (الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابل)، يقول «إن الولايات المتحدة بلد محظوظ : لديه كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ، ومعنى ذلك ـ كما يقول هيكل ـ إن لديه غنى بالموارد بلا حدود، وخفة في أثقال التاريخ وحمولاته، لم يتمتع بها غيره، وذلك منحه اطمئنانا إلى وفرة مادية طائلة، ثم إنه أعفاه من وساوس تاريخية ينوء بها عديد من الأوطان والبلدان»، وهذا القول نختلف فيه مع هذا الصحفي الكبير، ذلك أن ما حصل للاتحاد السوفيتي من انهيار، مع المعسكر الشرقي كله في أواخر الثمانينات، لم يكن بسبب ثقل التاريخ، ولا بقلة الموارد في الاتحاد السوفيتي، لكن الانهيار وتراكماته، من فعل التطبيق الشمولي للفكر الذي سارت عليه المنظومة الاشتراكية لعقود طويلة، لكن أمريكا ـ مع ما تتمتع من الثقل والقدرة والمال ـ حققت ذلك بأسباب عديدة، لعل أهم تلك الحريات العامة، وهي التي استطاعت أن تجد طريقها في القبول الشعبي، مع القدرة للتجديد والمراجعة، لكل نازلة أو ما يحصل من تحولات، ولا يُستبعد أن يحصل للولايات المتحدة مثلما حصل للاتحاد السوفيتي، فالسنن التاريخية، إن توافرت أسبابها في دورة الحياة وتقلباتها المختلقة، فمن الصعب أن استباق ما يحصل، وقد لا يصدها كثرة الجغرافيا، ولا ثقل التاريخ.. وتلك سنة الله في خلقه.